سورة الكهف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}
اعلم أن معنى قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ} على ما ذكرناه في قوله: {وَتَرَى الشمس} [الكهف: 17] أي لو رأيتهم لحسبتهم {أَيْقَاظًا} وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة:
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً ***
ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد، وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر، ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول، قال الواحدي: وإنما يحسبون {أَيْقَاظًا} لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ، والدليل عليه قوله تعالى: {وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء.
وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، ولفظ القرآن لا يدل عليه، وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم.
وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب؟ وقوله: {ذَاتُ} منصوبة على الظرف لأن المعنى {نقلبهم} في ناحية {اليمين} أو على ناحية {اليمين} كما قلنا في قوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} وقوله: {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ} قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه، وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً، فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم، وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى: {باسط ذِرَاعَيْهِ} أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين، ومنه الحديث في الصلاة: أنه نهى عن افتراش السبع وقال: لا تفترش ذراعيك افتراش السبع قوله: {بالوصيد} يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد، وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف، وقال السدي: {الوصيد} الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت، ثم قال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم، ويقال أطلعت فلاناً على الشيء فاطلع وقوله: {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} قال الزجاج قوله: {فِرَاراً} منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي فزعاً وخوفاً قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام، فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوباً، وقيل: إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعاً شديداً، فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به.
وهذا هو الأصح وقوله: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام، وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة، قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب، يقال: ملأتني رعباً، ولا يكادون يعرفون ملأتني، ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله:
فيملأ بيتنا أقطاً وسمناً ***
وقول الآخر:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر:
لا تملأ الدلو وعرق فيها ***
وقال الآخر:
امتلأ الحوض وقال قطني ***
وقد جاء التثقيل أيضاً، وأنشدوا للمخبل السعدي:
وإذا قتل النعمان بالناس محرما *** فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان.


{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
اعلم أن التقدير وكما: زدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم، فضربنا على آذانهم وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم، فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ قلنا: لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته. ثم قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ} أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم، ثم قال تعالى: {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة. ثم قال: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ (ها) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضاً للورق الرقة، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا}.
قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم.
وقال مجاهد: كان ملكهم ظالماً فقولهم: {أزكى طَعَامًا} يريدون أيها أبعد عن الغضب، وقيل أيها أطيب وألذ، وقيل أيها أرخص، قال الزجاج: قوله: {أَيُّهَا} رفع بالابتداء، و{أزكى} خبره و{طَعَامًا} نصب على التمييز، وقوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} [الصف: 14] أي عالين، وكذلك قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] أي ليعليه وقوله: {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] وقوله: {أَن تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] وأصله الرمي، قال الزجاج: أي يقتلوكم بالرجم، والرجم أخبث أنواع القتل: {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي يردوكم إلى دينهم {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله: {إِذًا أَبَدًا} يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً، قال القاضي: ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل، والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر، فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا: {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه، والله أعلم.


{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}
اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة، فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالوا: إن أصل هذا أن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه، فكان العثار سبباً لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين:
الأول: أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولاً خارجاً عن العادة.
والثاني: أن ذلك الرجل لما دخل إلى السوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام: هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم. وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزاً، واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال: بعت بها أمس شيئاً من التمر، وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى: {لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك، وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم: الجسد والروح يبعثان جميعاً، وقال آخرون: الروح تبعث، وأما الجسد فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف. فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله: {إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ} متعلق بأعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم.
واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث، فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته، وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها، وقيل: إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس، فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا.
والقول الثالث: أن بعضهم قال: الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان.
وقال آخرون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.
والقول الرابع: أن الكفار قالوا: إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنياناً، والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً.
والقول الخامس: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم.
والسادس: أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم، ثم قال تعالى: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وهذا فيه وجهان. أحدهما: أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم.
الثاني: أن هذا من كلام الله تعالى ذكره رداً للخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ثم قال تعالى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} قيل المراد به الملك المسلم، وقيل: أولياء أصحاب الكهف، وقيل: رؤساء البلد: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد، ثم قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الضمير في قوله: {سَيَقُولُونَ} عائد إلى المتنازعين.
روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس.
الوجه الثاني: قالوا: إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل، وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح.
الوجه الثالث: أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله: {رَجْماً بالغيب} وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن. والوجه الرابع: أنه تعالى لما حكى قولهم: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قال بعده: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب واتباع هذا القول الثالث بقوله: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة. والوجه الخامس: أنه تعالى قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول. كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كانوا سبعة وأسماؤهم هذا: يمليخا، مكسلمينا، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوس، ودبرنوس، وسادنوس، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته، والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أنا من ذلك العدد القليل، وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
الوجه السادس: أنه تعالى لما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق. فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة، ثم خص الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث.
الوجه السابع: أنه تعالى قال لرسوله؛ {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً} فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب، وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة، وأيضاً أنه تعالى قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي، فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام، والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي، لأن الأصل فيما سواه العدم، وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام، والله أعلم. بقي في الآية مباحث.
البحث الأول: في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه.
البحث الثاني: خص القول الأول بسين الاستقبال، وهو قوله سيقولون، والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه.
البحث الثالث: الرجم هو الرمي، والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله: {رَجْماً بالغيب} معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة، يقال فلان يرمي بالكلام رمياً، أي يتكلم من غير تدبر.
البحث الرابع: ذكروا في فائدة الواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وجوهاً الوجه الأول: ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال.
وثانيها: أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف، فقالوا وثمانية، فجاء هذا الكلام على هذا القانون، قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله: {والناهون عَنِ المنكر} [التوبة: 112] لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله: {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 73] لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، وقوله: {ثيبات وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] هو العدد الثامن مما تقدم، والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية، ومعناه ما ذكرناه، قال القفال: وهذا ليس بشيء، والدليل عليه قوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23] ولم يذكر الواو في النعت الثامن، ثم قال تعالى: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} وهذا هو الحق، لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى، وإلا عند من أخبره الله عنها، وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل، قال القاضي: إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح، وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف، ويمكن أن يقال: الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهى رسوله عن شيئين، عن المراء والاستفتاء، أما النهي عن المراء، فقوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظاهرا} والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول: هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف وترك القطع. ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وأما النهي عن الاستفتاء فقوله: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً}، وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم، واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية قالوا لأن قوله: {رَجْماً بالغيب} وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل: ظناً بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظن مكان قولهم ظن، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين، ألا ترى إلى قوله:
وما هو عنها بالحديث المرجم ***
أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف، وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين، فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله، وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مراراً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8